بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس الثالث من دروس اليوم الآخر ، وقبل أن نتابع الحديث عن هذا اليوم العظيم لا بد أن نتعرف إلى حقيقة الإنسان ، وما الذي يبقى منه ، وما جوهره .
أيها الإخوة ، الإنسان نفس ، وروح ، وجسد ، نفسك هي أنت ، هي ذاتك ، هي الجانب الذي يؤمن ، والذي يكفر ، والذي يشكر ، والذي لا يشكر ، والذي يسعد ، والذي يشقى ، هي الجانب الباقي في الإنسان ، والله عز وجل يقول :
( سورة آل عمران : 185 ) .
ذوق الموت شيء ، والموت شيء آخر ، النفس تذوق الموت ولا تموت ، إنها من روح الله عز وجل ، وهي خالدة إلى أبد الآبدين .
( سورة الزخرف : 77) .
في الإنسان أيها الإخوة جانب لا يفنى ، أبدي إلى ما شاء الله ، إما في جنة يدوم نعيمها ، أو في نار لا ينفُد عذابها ، الإنسان له جسم ، وهو وعاء تماماً ، غلاف تماماً ، ثياب تماماً ، فإنْ خلعت ثيابك ، فهل أنت ثيابك ، أم أنت شيء غير ثيابك ؟ قد ترتدي ثياباً رائعة ، مفصلة على قدك تماماً إذا خلعت هذا الثوب ، الثوب هو أنت أم أنت شيء غير الثوب ، هذا الجسم وعاء ، قالب ، مرتكز ، جانب مادي ، عند الموت تخلعه ، ويعود إلى أصله الترابي ، أما أنت فباقٍ .
يا فلان ، يا عتبة بن ربيعة ، يا صفوان ، ذكر النبي أسماءَهم ، وهؤلاء هم قتلى بدر من الكفار ، واحداً واحداً ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ فَقَالَ : ((يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ)) .
(رواه مسلم)
فيك جانب خالد لا يتأثر لا بالموت ، ولا بالقبر ، هذا الجانب له مصيران لا ثالث لهما ، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار ، النفس خالدة ، هي التي تشكر ، هي التي تكفر ، هي التي تؤمن ، هي التي تنافق ، هي التي تكون كريمة ، هي البخيلة ، هي النظيفة هي القذرة ، هي الصادقة ، هي الكاذبة ، هي التي تسعد بالله عز وجل ، وهي التي تشقى بالبعد عنه ، كل صفات الإنسان صفات نفسه ، فمثلاً المركبة القذرة من هو القذر ؟ صاحبها ، المركبة النظيفة من هو النظيف ؟ صاحبها ، والبيت المرتَّب من هو المرتَّب ؟ صاحبه ، والبيت الفوضوي من هو الفوضوي ؟ صاحبه ، فنفسك ذاتك ، هي أنت ، وإليك هذا المثل :
قد تكون في بيت واسع جداً ، مريح جداً ، كل حاجاتك مؤمَّنة ، أنواع الطعام ، أنواع الشراب ، حتى الفواكه ، والحلويات ، والزهور ، يأتيك اتصال هاتفي مزعج جداً ، تشعر بضيق لا يحتمل ، لماذا الضيق ؟ ما هي الجهة فيك التي تألمت ؟ نفسك .
الآن هناك خبر سار يملأ النفس بهجةً ، وهناك خبر سيئ يملأ النفس ضيقاً .
أخوان توأمان ينامان على سرير واحد ، الظروف كلها واحدة : السرير ، الجو ، الحرارة ، الرطوبة ، وقد تناولا طعاماً واحداً قبل أن يناما ، فأحدهما رأى نفسه في المنام داخل بستان جميل مع أصدقائه وأحبابه ، وتبادلوا ألوان الحديث الممتع ، والثاني رأى نفسه مع ثعبان أقرع ، فصاح صيحةً ملأت الغرفة صخباً ، فلماذا سعِد هذا ، وشقي هذا ؟ الظرف المادي واحد ، معنى ذلك أن لك نفساً تسعد وتشقى ، ترضى وتغضب ، تتصل وتنقطع ، تسمو وتنحط ، تؤمن وتكفر ، تطيـع وتعصي ، تحب وتكره ، نفسك هي أنت ، ذاتك ، كيف خاطب الله ذات الإنسان قال:
( سورة لقمان : 23) .
( سورة الفجر : 27 ـ 28) .
يا أيها الإنسان فالمقصود بالخطاب نفسه .
( سورة الانفطار : 6) .
لذلك أيها الإخوة ، هذه النفس التي هي ذاتك تذوق الموت ، ولا تموت ، وهي إما في جنة يدوم نعيمها ، أو في نار لا ينفد عذابها ، فجسمك هو الوعاء ، والنفس ترى من خلال العينين ، وتستمع إلى الأصوات من خلال الأذنين ، وتعبر عن حاجاتها عن طريق الفم واللسان ، وتتصل بالعالم الخارجي من خلال الحواس ، فهذا الجسم وعاء له نوافذ ، منها نوافذ تتلقى الأصوات ، نوافذ تتلقى الصور ، نوافذ تتلقى الأحاسيس ، نوافذ واسعة جداً تتلقى الحر والقر ، فجسمك وعاء نفسك ، وفيه نوافذ تنتقل عبرها إحساساتك بالعالم الخارجي ، الجسد وعاء ، أو ثوب يُخلَع ، لكنّ الروح القدرة الإلهية التي تحرك الجسد ، فالروح وللهِ المثل الأعلى ، من باب التقريب أقول : لدينا مسجلة ، الروح هي الكهرباء التي تسري فيها فيعلو صوتها ، لو قطعت عنها الكهرباء لأصبحت كتلة لا معنى لها ، البراد ما الشيء الذي يجعله يعمل ويبرد ؟ الكهرباء ، لو وزنت براداً أو ثلاجة في ميزان دقيق ، وهو يعمل ، ثم قطعت عنه الكهرباء هل يقل وزنه ؟ أبداً ، كان ثلاجةً فأصبح كتلة لا معنى لها ، فكل أعضاء الإنسان ؛ كالعين ترى بالروح ، والأذن تسمع بالروح ، واللسان ينطق بالروح ، والدماغ ينشط بالروح ، والمعدة تهضم بالروح ، فالروح هي الطاقة المحركة ، عند الموت تقطع عن الإنسان هذه الطاقة ، فمثلاً الكبد عن طريق الروح ، أي الحياة ، يقوم بخمسة آلاف وظيفة ، فلما انقطعت عنه الروح ، وانقطعت عنه الحياة ، صار قطعة من اللحم ، فإما أن تحفظها في براد ، وإما أن تتفسخ ، فالإنسان يقول لك : أريد شطيرة سودة ، فأساسها كبد ، كبد يقوم بخمسة آلاف وظيفة ، فلما ذبح الخروف أصبح لحماً يؤكل .
أيها الإخوة الكرام ، معنى ذلك أن في الإنسان نفساً هي ذاته ، هي الخالدة ، هي التي مصيرها الجنة أو النار ، هي التي تسعد بالله أو تشقى بالبعد عنه ، هي التي تسمو ، هي التي تسفل ، كل صفات الإنسان صفات بذاته ، يعني لو جئنا بجسم نبي ، أو بجسم أبي جهل ، عينان عينان ، أذنان أذنان ، لسان لسان ، شفتان شفتان ، يدان يدان ، وعاء ، أما ما الذي يميز هذا النبي العظيم، سيد الخلق ، وحبيب الحق ؟ أن نفسه تعرف الله ، ونفسه اتصلت بالله ، واصطبغت بالكمال الإلهي ، وذلك الآخر نفسه بعيدة عن الله ، انقطاعها عنه جعلها تسفل وتشقى .
فيا أيها الإخوة ، يقول أحدكم : إنه اليوم متضايق ، فهو أكل ، وشرب ، ونام ، كل أمورك ميسرة ، لماذا أنت متضايق ، لأن لديك مشكلة تعاني منها نفسك ، يعني لو فرضنا مثلاً للتقريب: أحد صفوف الإعدادي فَقَدَ قلمًا ثمينًا جداً ، فالمدرس أغلق الباب ، وفتش الطلاب طالباً طالباً ، واستخرج هذا القلم من جيب أحد الطلاب ، هذا الطالب لم يُضرَب ، ولم يُوَبَّخ ، لماذا كاد يذوب من الخجل ، ومن الضيق ، ألم يمر على أحدكم ظرف صعب جداً ، كاد قلبه يذوب من شدة الألم، إنها النفس ، هي النفس ، وإذا قال الله عزوجل :
( سورة الأعراف : 179 ) .
فهذا قلب النفس ، وهو المقصود بالآية ، ليس قلب الجسد ، ليس هذه المضخة الصنوبرية ، لا ، النفس لها قلب حقًّا ، لها قلب ، ومسكنها الصدر .
" إن الله عليم بذات الصدور ".
" يا أيتها النفس المطمئنة ، ارجعي إلى ربك راضية مرضية " .
الإنسان في الدنيا يخاطب بعناصره الثلاث ، يا أيها الإنسان ؛ يعني جسداً وروحاً ونفساً ، على كلٍ الحديث الطويل عن الروح قد يكون غير مجدٍ ، ذلك أن هذا أمر إخباري ، قال تعالى :
( سورة الإسراء : 85) .
نظام الروح غير نظامي الجسد والنفس ، وقد درسنا في الجامعة في علم النفس أن أمًّا في ميلانو ، وهي في المطبخ رأت ابنها قد دهسته سيارة في باريس ، رأته بعينها ، وبعد يومين جاءها النعش ، ومعه تقرير بالحادث في الساعة التي رأته قد دهس فيها ، تفسير هذه الحادثة صعب جداً ، الحادثة واقعة ، لكن سمَّوها التخاطر النفسي ، معناها النفس لا تزال حتى الآن مجهولة ، أعتقد الأكسكنيز ألف كتابًا عنوانه [الإنسان ذلك المجهول] ، وقصد نفسه ، لا جسده ، ولقد درس الأطباء القلب والرئتين والعينين والأذنين والأجهزة ، ودراسات علوم الطب متقدمة جداً ، لكن علوم النفس لا تزال في البدايات ، ومعلوم لديكم أنّ سيدنا عمر وهو يقف على المنبر في المدينة ، قطع الخطبة ونادى : يا ساريةُ الجبلَ الجبلَ ، وهو في بلاد الفرس ، ويقول سيدنا سارية سمعتُ صوت أمير المؤمنين يحذرني العدوّ ، وأن ألتزم الجبل ، فهذا هو التخاطر النفسي، وهو ثابت علمياً ، لكنه غير معروف تفصيلياً ، كيف !! لا نعرف ؟ فهذه النفس كأنها إشعاع ، أحياناً إنسان تذكره ، فإذا هو أمامك ، يقال عندئذٍ : حضرت ملائكته ، فهذا إشعاع صادر عنه ، وهناك حوادث كثيرة جداً من الصعب أن تصدق ، الحياة النفسية حياة لا تزال في البدايات .
أنا قرأت مقالة علمية ، أستاذ في جامعة ببلد عربي ، والجامعة محترمة جداً ، وكان سيعقد في هذه الجامعة مؤتمرًا علميًّا ، فهذا الأستاذ جاء بأربعة خيوط بلاستيكية ، حفر في أرض في مكان في الجامعة ، وهو حديقة كبيرة جداً ، حفر فيها أربع حفر بعمق واحد ، وجاء بتربة موحدة ، وجاء بنوع قمح موحد ، وعدد الحبات واحد ، ألفيْ حبة بألفين ، بألفين ، بألفين ، والتربة واحدة ، والحَب واحد ، والسقيا واحدة ، والتسميد واحد ، والعناية واحدة ، والمبيدات واحدة ، وهو أستاذ جامعة ، وجاء بطالبة كلفها أن تقرأ عن البيت الأول في الأسبوع مرتين سورة ياسين والفاتحة والمعوذتين والإخلاص بالأسبوع مرتين ، البيت الثاني كلف طالبة أخرى أن تمسك بالنبات ، وتمزقه لإحداث ألم في النبات ، والبيت الثالث كانت الطالبة تلقي كلاماً قاسياً على هذا النبات ، وتعذب نباتاً أمامه ، والبيت الرابع تُرِك على حاله ، وجعله مقياسًا ، لا قرآن ، ولا تعذيب ، والنتائج نُشِرتْ في مجلة علمية متخصصة ، وأنا ذكرت هذا في خطبة إذاعية مرة ، البيت الأول الذي تلي عليه القرآن نسبة النبات كانت 44 % زيادة على البيت الثاني والثالث ، ونمو النبات كان أطول 64 % أو بالعكس ، وعندي رقمان هما : 44 ـ 64 ، الآن لا أذكر أيهما لكل نسبة ، وأيهما لكل بيت ، لكن رقم بنسبة النمو ، ورقم للإنتاج ، طبعاً البيت الثاني والثالث أقل بمقدار 44 أو 64 في نمو الإنتاج ، وكان المقياس البيت الرابع ، إذا فالله عز وجل قال :
( سورة الحشر : 21 ) .
معنى ذلك أن هذا القرآن يتوجه إلى نفس النبات ، والله ألقيت هذا الموضوع بخطبة ، وأحد الإخوة المصلين قال كلاماً يكاد لا يصدق ، قال لي : نحن لنا بيت قريب من المسجد ، بيت عربي قديم ، وفيه شجرة تثمر ثمرًا معينًا ، قال : لقد بقيت عشر سنوات تعطي ثمرتين أو ثلاثًا في السنة ، فوالدي شكا همه إلى بستاني ، قال له : واللهِ أنا أريد أن أقطع هذه الشجرة ، لأنه لا فائدة منها ، ثم قال له : دعها لي ، وسآتيك يوم الجمعة ، وفكر والدي أن المشكلة تكمن في التسميد ، قال : أنا سأمسك بالمنشار لأقطعها ، وأنت يجب أن ترجوني ألاّ أقطعها ، عملية تمثيل أمام نبات ، قال لي : والله أنا استصغرت عقلَ هذا البستاني ، قال لي : والله جاء بسُلّم ، وصعد إلى منتصفها ، وجاء بالمنشار ليقطعها ، قال له : أرجوك ألا تقطعها ، سوف تحمل ، تعدني أن تحمل ، وهذا الرجل ، والله هو صادق عندي ، أقسم بالله أنه في العام القادم حملت أكثر من خمسمائة ثمرة ، وبقيت عشر سنوات تحمل ، فالنبات له نفس ، واسأل هؤلاء الذين يتعاملون مع النبات يقول لك أحدُهم : هذه النبتة لما نقلت من بيت إلى بيت ماتت ، كانت منسجمة مع صاحب البيت الأول ، هذه أمور لا زالت في البدايات .
والحمد لله رب العالمين